كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الملك فدرجته أعلى الدرجات لأنه عبارة عن موجود لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه بل لا يقتصر إدراكه على ما يتصور فيه القرب والبعد إذ القرب والبعد يتصور على الأجسام والأجسام أخس أقسام الموجودات ثم هو مقدس عن الشهوة والغضب فليست أفعاله بمقتضى الشهوة والغضب بل داعيه إلى الأفعال أمر أجل من الشهوة والغضب وهو طلب التقرب إلى الله عز وجل.
وأما الإنسان فإن درجته متوسطة بين الدرجتين وكأنه مركب من بهيمية وملكية والأغلب عليه في بداية أمره البهيمية إذ ليس له أولا من الإدراك إلا الحواس التي يحتاج في الإدراك بها إلى طلب القرب من المحسوس بالسعي والحركة إلى أن يشرق عليه بالآخرة نور العقل المتصرف في ملكوت السموات والأرض من غير حاجة إلى حركة بالبدن وطلب قرب أو مماسة مع المدرك به بل مدركه الأمور المقدسة عن قبول القرب والبعد بالمكان وكذلك المستولي عليه أولا شهوته وغضبه وبحسب مقتضاهما انبعاثه إلى أن يظهر فيه الرغبة في طلب الكمال والنظر للعاقبة وعصيان مقتضى الشهوة والغضب فإن غلب الشهوة والغضب حتى ملكهما وضعفا عن تحريكه وتسكينه أخذ بذلك شبها من الملائكة وكذلك إن فطم نفسه عن الجمود على الخيالات والمحسوسات وأنس بإدراك أمور تجل عن أن ينالها حس أو خيال أخذ شبها أخر من الملائكة فإن خاصية الحياة الإدراك والعقل وإليهما يتطرق النقصان والتوسط والكمال ومهما اقتدى بالملائكة في هاتين الخاصيتين كان أبعد عن البهيمية وأقرب من الملك والملك قريب من الله عز وجل والقريب من القريب قريب.
فإن قلت فظاهر هذا الكلام يشير إلى إثبات مشابهة بين العبد وبين الله تعالى لأنه إذا تخلق بأخلاقه كان شبيها له ومعلوم شرعا وعقلا أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء فأقول مهما عرفت معنى المماثلة المنفية عن الله عز وجل عرفت أنه لا مثل له ولا ينبغي أن يظن أن المشاركة في كل وصف توجب المماثلة.
افترى أن الضدين يتماثلان وبينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه وهما متشاركان في أوصاف كثيرة إذ السواد يشارك البياض في كونه عرضا وفي كونه لونا وفي كونه مدركا بالبصر وأمور أخر سواها أفترى أن من قال إن الله عز وجل موجود لا في محل وإنه سميع بصير عالم مريد متكلم حي قادر فاعل والإنسان أيضا كذلك فقد شبه وأثبت المثل هيهات ليس الأمر كذلك ولو كان كذلك لكان الخلق كلهم مشبهة إذ لا أقل من إثبات المشاركة في الوجود وهو موهم للمشابهة بل المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية والفرس وإن كان بالغا في الكياسة لا يكون مثلا للإنسان لأنه مخالف له بالنوع وإنما يشابهه بالكياسة التي هي عارضة خارجة عن الماهية المقومة لذات الإنسانية.
والخاصية الإلهية أنه الموجود الواجب الوجود بذاته الذي عنه يوجد كل ما في الإمكان وجوده على أحسن وجوه النظام والكمال وهذه الخاصية لا يتصور فيها مشاركة البتة والمماثلة بها لا تحصل فكون العبد رحيما صبورا شكورا لا يوجب المماثلة ككونه سمعيا بصيرا عالما قادرا حيا فاعلا بل أقول الخاصية الإلهية ليست إلا لله تعالى ولا يعرفها إلا الله ولا يتصور أن يعرفها إلا هو أو من هو مثله وإذا لم يكن له مثل فلا يعرفها غيره فإذا الحق ما قاله الجنيد رحمه الله حيث قال لا يعرف الله إلا الله ولذلك لم يعط أجل خلقه إلا اسما حجبه به فقال: {سبح اسم ربك الأعلى} 87 سورة الأعلى الآية 1 فوالله ما عرف الله غير الله في الدنيا والآخرة وقيل لذي النون وقد أشرف على الموت ماذا تشتهي فقال أن أعرفه قبل أن أموت ولو بلحظة وهذا الآن يشوش قلوب أكثر الضعفاء ويوهم عندهم القول بالنفي والتعطيل وذلك لعجزهم عن فهم هذا الكلام.
وأنا أقول لو قال القائل لا أعرف الله كان صادقا ولو قال أعرف الله كان صادقا ومعلوم أن النفي والإثبات لا يصدقان معا بل يتقاسمان الصدق والكذب فإن صدق النفي كذب الإثبات وبالعكس ولكن إذا اختلف وجه الكلام تصور الصدق في القسمين وهو كما لو قال القائل لغيره هل تعرف الصديق أبا بكر رضي الله عنه فقال والصديق ممن يجهل ولا يعرف أو يتصور في العالم من لا يعرفه مع ظهوره واشتهاره وانتشار اسمه فهل على المنابر إلا حديثه وهل في المساجد إلا ذكره وهل على الألسنة إلا ثناؤه ووصفه لكان هذا القائل صادقا ولو قيل لآخر هل تعرفه فقال ومن أنا حتى أعرف الصديق هيهات لا يعرف الصديق سوى الصديق أو من هو مثله أو فوقه ومن أين لي أن أدعي معرفته أو أطمع فيها وإنما مثلي يسمع اسمه وصفته فأما أن يدعي معرفته فذلك محال فهذا أيضا صادق وله وجه وهو أقرب إلى التعظيم والاحترام.
وهكذا ينبغي أن يفهم قول من قال أعرف الله وقول من قال لا أعرف الله.
بل لو عرضت خطا منظوما على عاقل وقلت هل تعرف كاتبه فقال لا صدق ولو قال نعم كاتبه هو الإنسان الحي القادر السميع البصير السليم اليد العالم بصناعة الكتابة فإذا عرفت كل هذا منه فكيف لا أعرفه فهذا أيضا صدق ولكن الأحق والأصدق قوله لا أعرفه فإنه بالحقيقة ما عرفه وإنما عرف احتياج الخط المنظوم إلى كاتب حي عالم قادر سميع بصير سليم اليد عالم بصناعة الكتابة ولم يعرف الكاتب نفسه فكذلك الخلق كلهم لم يعرفوا إلا احتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع مدبر حي عالم قادر.
وهذه المعرفة لها طرفان أحدهما يتعلق بالعالم ومعلومه احتياجه إلى مدبر والآخر يتعلق بالله عز وجل ومعلومه أسامي مشتقة من صفات غير داخلة في حقيقة الذات وماهيتها فإنا قد بينا أنه إذا أشار المشير إلى شيء.
وقال ما هو لم يكن ذكر الأسماء المشتقة جوابا أصلا فلو أشار إلى شخص حيوان فقال ما هو فقيل طويل أو أبيض أو قصير أو أشار إلى ماء فقال ما هو فقيل بأنه بارد أو أشار إلى نار وقال ما هو فقيل حار فكل ذلك ليس بجواب عن الماهية البتة والمعرفة بالشيء هي معرفة حقيقته وماهيته لا معرفة الأسامي المشتقة فإن قولنا حار معناه شيء مبهم له وصف الحرارة وكذلك قولنا قادر وعالم معناه شيء مبهم له وصف العلم والقدرة.
فإن قلت فقولنا إنه الواجب الوجود الذي عنه وحده يوجد كل ما في الإمكان وجوده عبارة عن حقيقته وحده وقد عرفنا هذا فأقول هيهات فقولنا واجب الوجود عبارة عن استغنائه عن العلة والفاعل وهذا يرجع إلى سلب السبب عنه وقولنا يوجد عنه كل موجود يرجع إلى إضافة الأفعال إليه وإذا قيل لنا ما هذا الشيء وقلنا هو الفاعل لم يكن جوابا وإذا قلنا هو الذي له علة لم يكن جوابا فكيف قولنا هو الذي لا علة له لأن كل ذلك نبأ عن غير ذاته وعن إضافة له إلى ذاته إما بنفي أو إثبات وكل ذلك أسماء وصفات وإضافات.
فإن قلت فما السبيل إلى معرفته فأقول لو قال لنا صبي أو عنين ما السبيل إلى معرفة لذة الوقاع وإدراك حقيقته قلنا هاهنا سبيلان أحدهما أن نصفه لك حتى تعرفه والآخر أن تصبر حتى تظهر فيك غريزة الشهوة ثم تباشر الوقاع حتى تظهر فيك لذة الوقاع فتعرفه وهذا السبيل الثاني هو السبيل المحقق المفضي إلى حقيقة المعرفة.
فأما الأول فلا يفضي إلا إلى توهم وتشبيه للشيء بما لا يشبهه إذ غايتنا أن نمثل لذة الوقاع عنده بشيء من اللذات التي يدركها العنين كلذة الطعام والشراب الحلو مثلا فنقول له أما تعرف أن السكر لذيذ فإنك تجد عند تناوله حالة طيبة وتحس في نفسك راحة قال نعم قلنا فالجماع أيضا كذلك أفترى أن هذا يفهمه حقيقة لذة الجماع كما هي حتى ينزل في معرفته منزلة من ذاق تلك اللذة وأدركها هيهات إنما غاية هذا الوصف إيهام وتشبيه خطأ وتفهيم ومشاركة في الاسم.
أما الإيهام فهو أنه يتوهم أن ذلك أمر طيب على الجملة وأما التشبيه فهو أنه يشبهه بحلاوة السكر وهو خطأ إذ لا مناسبة بين حلاوة السكر ولذة الوقاع وأما المشاركة في الاسم فهو أنه يعلم أنه مستحق أن يسمى لذة ومهما ظهرت الشهوة وذاق علم قطعا أنه لا يشبهه حلاوة السكر وأن ما كان توهمه لم يكن على الوجه الذي توهمه نعم يعلم أن الذي كان قد سمع من اسمه وصفته وأنه لذيذ وطيب كان صادقا بل كان أصدق عليه منه على حلاوة السكر.
فكذلك لمعرفة الله سبحانه وتعالى سبيلان أحدهما قاصر والآخر مسدود.
أما القاصر فهو ذكر الأسماء والصفات وطريقة التشبيه بما عرفناه من أنفسنا فإنا لما عرفنا أنفسنا قادرين عالمين أحياء متكلمين ثم سمعنا ذلك في أوصاف الله عز وجل أو عرفناه بالدليل فهمناه فهما قاصرا كفهم العنين لذة الوقاع بما يوصف له من لذة السكر بل حياتنا وقدرتنا وعلمنا أبعد من حياة الله عز وجل وقدرته وعلمه من حلاوة السكر من لذة الوقاع بل لا مناسبة بين البعيدين وفائدة تعريف الله عز وجل بهذه الأوصاف أيضا إيهام وتشبيه ومشاركة في الاسم لكن يقطع التشبيه بأن يقال ليس كمثله شيء فهو حي لا كالأحياء وقادر لا كالقادرين كما تقول الوقاع لذيذ كالسكر ولكن تلك اللذة لا تشبه هذه البتة ولكن تشاركها في الاسم.
وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف إلا أنفسنا ولم نعرفه إلا بأنفسنا إذ الأصم لا يتصور أن يفهم معنى قولنا إن الله سميع ولا الأكمه يفهم معنى قولنا إنه بصير ولذلك إذا قال القائل كيف يكون الله عز وجل عالما بالأشياء فنقول كما تعلم أنت الأشياء فإذا قال فكيف يكون قادرا فنقول كما تقدر أنت فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه فيعلم أولا ما هو متصف به ثم يعلم غيره بالمقايسة إليه فإن كان لله عز وجل وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه في الاسم ولو مشاركة حلاوة السكر لذة الوقاع لم يتصور فهمه البتة فما عرف أحد إلا نفسه ثم قايس بين صفات الله تعالى وصفات نفسه وتتعالى صفاته عن أن تشبه صفاتنا فتكون هذه معرفة قاصرة يغلب عليها الإيهام والتشبيه فينبغي أن تقترن بها المعرفة بنفي المشابهة وينفي أصل المناسبة مع المشاركة في الاسم.
وأما السبيل الثاني المسدود فهو أن ينتظر العبد أن تحصل له الصفات الربوبية كلها حتى يصير ربا كما ينتظر الصبي أن يبلغ فيدرك تلك اللذة وهذا السبيل مسدود ممتنع إذ يستحيل أن تحصل تلك الحقيقة لغير الله تعالى وهذا هو سبيل المعرفة المحققة لا غير وهو مسدود قطعا إلا على الله تعالى.
فإذا يستحيل أن يعرف الله تعالى بالحقيقة غير الله بل أقول يستحيل أن يعرف النبي غير النبي وأما من لا نبوة له فلا يعرف من النبوة إلا اسمها وأنها خاصية موجودة لإنسان بها يفارق من ليس نبيا ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا بالتشبيه بصفات نفسه.
بل أزيد وأقول لا يعرف أحد حقيقة الموت وحقيقة الجنة والنار إلا بعد الموت ودخول الجنة أو النار لأن الجنة عبارة عن أسباب ملذة ولو فرضنا شخصا لم يدرك قط لذة لم يمكننا أصلا أن نفهمه الجنة تفهيما يرغبه في طلبها.
والنار عبارة عن أسباب مؤلمة ولو فرضنا شخصا لم يقاس قط ألما لم يمكننا قط أن نفهمه النار فإذا قاساه فهمناه إياه بالتشبيه بأشد ما قاساه وهو ألم النار.
وكذلك إذا أدرك شيئا من اللذات فغايتنا أن نفهمه الجنة بالتشبيه بأعظم ما ناله من اللذات وهي المطعم والمنكح والمنظر فإن كان في الجنة لذة مخالفة لهذه اللذات فلا سبيل إلى تفهيمه أصلا إلا بالتشبيه بهذه اللذات كما ذكرناه في تشبيه لذة الوقاع بحلاوة السكر ولذات الجنة أبعد من كل لذة أدركناها في الدنيا من لذة الوقاع عن لذة السكر بل العبارة الصحيحة عنها أنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فإن مثلناها بالأطعمة قلنا مع ذلك لا كهذه الأطعمة وإن مثلناها بالوقاع قلنا لا كالوقاع المعهود في الدنيا فكيف يتعجب المتعجبون من قولنا لم يحصل أهل الأرض والسماء معرفة من الله تعالى إلا على الصفات والأسماء ونحن نقول لم يحصلوا من الجنة إلا على الصفات والأسماء وكذلك في كل ما سمع الإنسان اسمه وصفته وما ذاقه وما أدركه ولا انتهى إليه ولا اتصف به.
فإن قلت فماذا نهاية معرفة العارفين بالله تعالى فنقول نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه وأنه لا يمكنهم البتة معرفته وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله عز وجل فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا كما ذكرناه فقد عرفوه أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته.